مراد المرصفي عضو مميز
عدد المساهمات : 87 نقاط : 265 تاريخ التسجيل : 26/10/2009
| موضوع: الامر بالمعروف والنهي عن المنكر الخميس 7 يناير 2010 - 7:08 | |
|
وهذه هي الفريضة أو الشعيرة من فرائض الإسلام وشعائره،وهي سياج الشعائر السابقة وحارستها. وربما استغرب بعض الناس أن تكون هذه ضمن الفرائض الأساسية في الإسلام , فالمألوف والشائع هو الأربع التي سلف ذكرها . ولكن المتتبع للقرآن والسنة يجد ذلك أوضح من فلق الصباح . فالقرآن يجعل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الخصيصة الأولى التي تميزت بها هذه الأمة المسلمة , وفاقت بها أمم الأرض : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله) . قدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في الذكر على الإيمان , مع أن الإيمان هو الأساس , لأن الإيمان بالله قدر مشترك بين الأمم الكتابية جميعا , ولكن الأمر والنهى فضيلة هذه الأمة , التي لم تخرج للوجود من نفسها كالنبات الصحراوي , بل أخرجها الله إخراجا , ولم يخرجها لتعيش لنفسها , فحسب , بل أخرجت للناس , للبشرية كلها , فهي أمة دعوة ورسالة , همها أن تشيع المعروف وتثبته، وأن تزيل المنكر وتمنعه. وقبل الآية المذكورة ببضع آيات جاء قوله تبارك وتعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون ). والآية الكريمة: (ولتكن منكم أمة ) تحتمل معنيين: الأول أن تكون ( من) للتجريد كما تقول : ليكن لي منك الصديق الوفي , وليكن منك المسلم المعاهد في سبيل الله , ف ( من ) هنا ليست للتبعيض بل للتبريد , أي كن الصديق الوفي وكن المسلم المجاهد , وكذلك يكون معنى الآية : كونوا أمة يدعون إلى الخير . . . إلخ . ولعل مما يؤيد هذا المعنى حصر الفلاح في هؤلاء. دون غيرهم , كما يفيد قوله تعالى : ( وأولئك هم المفلحون ) .
ومقتضى هذا التفسير : أن تكون الأمة كلها داعية إلى الخير , آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر , كل بحسب مكانته وطاقته , حتى تكون من أهل الفلاح . والمعنى الثاني : أن تكون ( من ) في ( منكم) للتبعيض كما هو الشائع المتبادر , ومقتضى هذا أن يكون في المجتمع المسلم طائفة قادرة, متمكنة , معدة الإعداد الملائم , لتقوم بواجب الدعوة والأمر والنهى , والمخاطب بهذا الأمر الإلهي -إيجاد الطائفة المذكورة - هم جماعة المسلمين كافة وأولو الأمر خاصة , فعليهم تهيئة الأسباب لوجودها , وإعانتها ماديا وأدبيا لتقوم برسالتها , فإذا لم توجد هذه الأمة أو هذه الطائفة المنشودة , عم الإثم جميع المسلمين , ككل فرض كفائي يترك ويهمل . ولا يكفى أن يوجد أفراد متناثرون يقومون بالوعظ والإرشاد , في دولة تدير لهم ظهرها , ومجتمع ينأى منهم بجانبه , فالقرآن لم يرد ذلك , إنا أراد وجود ( أمة ), فالأفراد المتناثرون لا يكونون ( أمة ) , كما يفترض أن تكون لهذه الأمة حرية الدعوة إلى الخير , وأعظم بواب الخير هو الإسلام . وأن تكون قادرة على أن تأمر وتنهى , والأمر والنهى شئ أخص وأكبر من الوعظ والتذكير, فكل ذي لسان قادر على أن يعظ ويذكر , وليس قادرا دائماً أن يأمر وينهى , والذي طالبت به الآية الكريمة إنا هو إيجاد أمة تدعو وتأمر وتنهى . وفى بيان السمات العامة لمجتمع المؤمنين , والتي يتميز بها عن مجتمع المنافقين يقول القرآن في سورة التوبة : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أوليا ء بعض , يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله , أولئك سيرحمهم الله , إن الله عزيز حكيم ) , ومن الجميل في الآية أنها قرنت المؤمنات بالمؤمنين , وجعلت الجميع بعضهم أولياء بعض , وحملتهم - رجالا ونساء- تبعه الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر , وهذه شعيرة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الصلاة والزكاة , لأنها السمة الأولى للمجتمع المسلم , ولأفراد المجمع المسلم , فالإسلام لا يكفى منهم أن يصلحوا في أنفسهم حتى يعملوا على إصلاح غيرهم, وفى هذا أيضا جاءت سورة العصر : ( والعصر، إن الإنسان لفي خسر ، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) , فلم يكف الإيمان والعمل الصالح , لنجاتهم من الخسران والهلاك حتى يضموا إلى ذلك التواصي بالحق والتواصي بالصبر , وبعبارة أخرى : حتى يشتغلوا بإصلاح غيرهم , ويشيع في المجتمع معنى التناصح والدعوة إلى التمسك بالحق والصبر عليه , ويصبح ذلك من مقومات المجتمع كالإيمان وعمل الصالحات . وفى سورة التوبة أيضا , بيان لأوصاف المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة , وذلك قوله : ( التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله , وبشر المؤمنين) . وفى سورة الحج ذكر القرآن أهم واجبات الأمة المسلمة حين الله لها في الأرض , ويكون لها دولة وسلطان , فقال : ( ولينصرن الله من ينصره , إن الله لقوى عزيز ، إن الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر, ولله عاقبة الأمور) . فالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر - إلى جانب الصلاة والزكاة - أهم ما تقوم به دولة الإسلام بعد أن يمكن الله لها وينصرها على عدوها , بل هي لا تستحق نصر الله , إلا بهذا , كما بينت الآيتان الكريمتان . هذه هي فريضة الأمر بالمعروف والنهى من المنكر في القرآن , إنها تمم على وجوب التكافل الأدبي بين المسلمين , كما أن الزكاة علم على وجوب التكافل المادي بينهم.
وجاء الحديث النبوي فصور هذا التكافل الأدبي أبلغ ما يكون التصوير وأروعه وأصدقه . وذلك فيما رواه البخاري وغيره عن النعمان بن بشير :
( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها , كمثل قوم استهموا على سفينة ,
فصار بعضهم أعلاها , وبعضهم أسفلها , وكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم , فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا , ولم نؤذ من فوقنا ! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا , وان أخذوا على أيديهم نجبوا ، ونجبوا جميعا ) إن أسوا ما يصيب المجتمعات أن يغرس الطغيان أو الخوف فيها الألسنة , فلا تعلن بكلمة حق , ولا تجهر بدعوة ولا نصيحة , ولا أمر ولا نهى . وبذلك تتهدم منابر الإصلاح وتختفي معاني القوة , وتذوى شجرة الخير , ويجترئ الشر ودعاته على الطهور والانتشار , فتنعق سوق الفساد , وتروج بضامة إبليس , وجنوده , من غير أن عبد مقاومة ولا مقاطعة . وحينئذ يستوجب المجتمع نقمة الله وعذابه , فيصب البلاء والنكبات على المقترفين للمنكر والساكتين عليه , قال تعالى : ( واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة , واعلموا أن الله شديد العقاب ) .
وقال صلى الله عليه وسلم ( إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعذاب من عنده ). وفي حديث آخر إذا رأيت أمتي تهاب فلا تقول للظالم: يا ظالم، فقد تودع منهم) إن الله لعن بنى إسرائيل على لسان أنبيائه , وضرب قلوب بعضهم ببعض , وسلط عليهم من لا يرحمهم , لانتشار المنكرات بينهم دون أن تجد من يغيرها أو ينهى عنها . قال تعالى : ( لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل عن لسان داود وعيسى ابن مريم , ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون و كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه , لبئس ما كانوا يفعلون ). وأسوا مما ذكرنا أن يموت الضمير الاجتماعي للأمة أو يمرض على الأقل , بعد طول الإلف للمنكر والسكوت عليه - فيفقد المجتمع حسه الديني والأخلاقي , الذي يعرف به المعروف من المنكر , ويفقد العقل البصير الذي يميز الخبيث من , والحلال من الحرام , والرشد من الغي , وعند ذلك تختل موازين المجتمع وتضبط مقاييسه , فيرى ألسنة بدعة , والبدعة سنة , أو يرى ما نحسه ونلمسه في عصرنا عند كثيرين من أبناء المسلمين , من اعتبار التدين رجعيه , والاستقامة تزمتاً , والاحشام جموداً , والفجور فناً , والإلحاد تحرراً , وما لا نعلم , وبعبارة موجزة والانحلال تقدما , والانتفاع بتراث السلف مخلفا في التفكير .. إلى آخر ما نعلم وما لا نعلم، وبعبارة موجزة: يصبح المعروف منكرا , والمنكر معروفا ! وأسوا من هذا وذاك : أن يخفت صوت الحق , وتتعالى صيحات الباطل , تتجاوب بها الأرجاء داعيه إلى الفساد , آمره بالمنكر , ناهيه عن المعروف , صيحات الذين وصفهم الحديث الشريف بأنهم : ( دعاة على أبواب جهنم , من أجابهم إليها قذفوه فيها ) . هذا هو شأن مجتمع المنافقين الذين جعلهم القرآن في الدرك الأسفل من النار , وهو المجتمع الذي حددت معالمه الآية الكريمة: ( المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض , يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم , نسوا الله فنسيهم , إن المنافقين هم الفاسقون ) . وهذه الخصال مناقضة تمام المناقضة لمجتمع المؤمنين , كما صورته آية : ( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض , يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) , والذي يعنينا هنا أنه مجتمع منكوس على رأسه , يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف . فإذا ارتفع فيه للحق صوت يدعو إلى الله , ويأمر بالقسط , وينهى عن الفساد والظلم , كان جزاؤه الموت جهارا على حبل المشنقة في وضح النهار , أو الاغتيال خفيه - بالرصاص أو بسياط التعذيب - في جنح الليل . كما صنع بنو إسرائيل بأنبيائهم حين قتلوهم بغير حق . فمنهم من ذبحوه بالسكين , ومنهم من نشروه بالمنشار , ومنهم من تآمروا على قتله وصلبه , فرفعه الله إليه . وهو على مله الأنبياء والدعاة إلى الله قوله سبحنه : ( إن الذين من يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم ، أولئك الذين حبطت أعماهم في الدنيا والآخرة وما لهم من ناصرين ) . إن هذه المراحل المتدرجة في الانحطاط والفساد , يأخذ بعضها بحجز بعض , ويجر بعضها إلى بعض , فالشبهات تجر إلى صغائر المحرمات , والصغائر تجر إلى الكبائر , والكبائر تجر إلى الكفر , والعياذ بالله . ومن أروع الأحاديث التي وضحت هذا التنزل في دركات الشر والمعصية , ما رواه أبو أمامة مرفوعاً : ( كيف أنتم إذا طغى نساؤكم , وفسق شبانكم , وتركتم جهادكم )؟! قالوا : وان ذلك لكائن يا رسول الله ؟ قال : ( نعم , والذي نفسي بيده , وأشد منه سيكون ) ! قالوا : وما أشد منه يا رسول الله ؟ قال : (كيف أنتم إذا لم تأمروا بمعروف ولم تنهوا عن منكر ) ؟! . قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟: قال : ( نعم , والذي نفسي بيده , وأشد منه سيكون ! ! قالوا : وما أشد منه يا رسول الله ؟! قال : ( كيف أنتم إذا رأيتم المعروف منكرا , والمنكر معروفاً ) ؟! قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟! قال : ( نعم , والذي نفسي بيده , وأشد منه سيكون ) ! قالوا : وما أشد منه يا رسول الله ؟! قال : (كيف أنتم إذا أمرتم بالمنكر , ونهيتم عن المعروف ) ؟! قالوا : وكائن ذلك يا رسول الله ؟! قال : ( نعم , والذي نفسي بيده , وأشد منه سيكون ! يقول الله تعالى : بي حلفت لأتيحن لهم فتنة يصير الحليم فيها حيران ) .
ويبدو أن الكثير مما حذر منه هذا الحديث مد وقع , متى غدا المعروف منكرا , والمنكر معروفا , وأصبحت الدعوة إلى الإسلام وشريعته وكأنها جريمة , وأمسى الداعي إلى الإسلام «« أصولياً » مكانه قفص الاتهام ! ولكن الدعاة إلى الله , الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر , والحراس الأيقاظ لدين الله ، لم يزل صوتهم قوياً بالحق, وان تعالت من حولهم أصوات الباطل. المهم هو تأكيد هذه الفريضة العظيمة وإحياؤها , وإحياء وظيفة ( المحتسب ) الذي جسا هذه الشعيرة في الحياة العملية , وكانله شأن خطير في مجتمع المسلمين . وإذا كان بعض الناس في عصرنا يتحدثون عن « الرأي العام » وأثره في الرقابة على رعاية مبادئ الأمة وأخلاقها وآدابها ومصالحها , وتقويم ما يعوج من شئون حياتها , فإن فريضة الأمر والنهى كفيلة بأن تنشئ الرأي العام الواعي البصير , المستند إلى أقوم المعايير الأخلاقية والأدبية وأعدلها وأخلدها وا ثبتها , لأنها معايير مستمدة من الحق الأزلي الأبدي , من الله عز وجل | |
|