كان أهل مكة ضعاف التفكير أقوياء الشهوات.
إذ لا صلة بين نضج الفكر ونضح الغريزة، ولا بين تخلف حرامات من الناحية العقلية وتخلفها من ناحية الأهواء والمطامع.
إن عُرام الشهوات الذي نسمع عنه في "باريس" و "هوليود" لا يزيد كثيراً عما وعته القرون الخالية من مفاسد الإنسان على ظهر الأرض.
وتقدم الحضارة لا أثر له من هذه الناحية إلا في زيادة وسائل الإغراء فحسب.
أما الشهوات نفسها فهي هي من قبل الطوفان ومن بعده الأثرة والجشع والرياء والتهارش والحقد، وغير ذلك من ذميم الخصال، ملأت الدنيا من قديم، وإن تغيرت الأزياء التي تظهر بها على مر العصور.
وإن الإنسان ليرى في القرية التافهة وفي القبيلة الساذجة من التنافس على المال والظهور ما يراه في أرقى البيئات، وكثير من الناس تفوتهم أنصبة رائعة من العلم والفضل ولكن لا تفوتهم أنصبة كبيرة جداً من الاحتيال والتطلع والدس، وقد تستغرب إذ ترى الشخص لا يحسن فهم مسألة قريبة من أنفِه. ومع ذلك فهو يفهم جيداً ألا يكون فلان أفضل منه!!.
من عهد نوح والحياة تجمع أمثلة شتى لهذا الغباء وهذا العناد.
فعندما دعي قوم نوح إلى الإيمان بالله وحده كانت إجابتهم لنوح لا تهتم بموضوع الدعوة قدر اهتمامها بشخص الداعي، وما سيحرزه من فضل بهذه الرسالة!.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنزَلَ مَلَائِكَةً....}.
ما أكثر منافذ الهوى إلى الأعمال والأحكام، وما أعقد مخلفات الهوى في الأخلاق والأفكار، والسير والسياسات!!!
وقد كانت "مكة" على عهد البعثة تموج بحركة عاصفة من الشهوات والمآثم وكان الرجال الذين يحيون فيها أمثلة قوية لنضج الأهواء، وشلل الأفكار، أو نمائها في ظل الهوى الجامح ولخدمته وحده...
كفرٌ بالله واليوم الآخر، إقبال على نعيم الدنيا وإغراق في التشبُّع منه، رغبة عميقة في السيادة والعلو ونفاذ الكلمة، عصبيات طائشة تسالم وتحارب من أجل ذلك، تقاليد متوارثة توجه نشاط الفرد المادي والأدبي داخل هذا النطاق المحدود.
من الخطأ أن تحسب "مكة" يومئذ قرية منقطعة عن العمران في صحراء موحشة، لا تحس من الدنيا إلا الضرورات التي تمسك عليها الرمق. كلا، إنها شبعت حتى بطرت، وتنازعت الكبرياء حتى تطاحنت عليها، وكثر فيها من تغلغل الإلحاد في أغوار نفسه حتى عز إخراجه منه. فهم بين عَمٍ عن الصواب أو جاحد له، وفي هذا المجتمع الذي لم ينل حظاً يذكر من الحضارة العقلية بلغ غرور الفرد مداه، ووجد من يسابق فرعون في عتوه وطغواه.
قال عمرو بن هشام -معلِّلاً كفره برسالة محمد (صلَّى الله عليه وسلم): زاحمنا بنو عبد مناف في الشرف حتى إذا صرنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبيّ يوحى إليه! والله لا نؤمن به، ولا نتبعه أبداً إلا أن يأتينا وحي كما يأتيه!!
وزعموا أن الوليد بن المغيرة قال لرسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): لو كانت النبوة حقاً لكنت أولى بها منك! لأني أكبر منك سناً وأكثر منك مالاً!
وهذه السفاهات العاتية، لم تنفرد مكة بها فما كان كفر عبدالله بن أبي في المدينة إلا لمثل هذه الأسباب.
ذهب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) -بعد الهجرة- يعود سعد بن عبادة في مرض أصابه قبل وقعة بدر ، فركب انااً وأردف وراءه أسامة بن زيد، وسارا حتى مرا بمجلس فيه عبدالله بن أبي، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود. وفي المسلمين عبدالله بن رواحة. فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمَّر ابن أبي أنفه بردائه، ثم قال: لا تغبروا علينا. فسلم رسول الله عليه الصلاة والسلام، ثم وقف ونزل، فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن.. فقال عبدالله: أيها المرء، إنه لا أحسن مما تقول، إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا، وارجع إلى رحلك، فمن جاءك فاقصص عليه..
فقال ابن رواحة: بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا، فإنا نحب ذلك، فاستبَّ المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون. فلم يزل الرسول عليه الصلاة والسلام يخفِّضهم حتى سكتوا، ثم ركب وسار حتى دخل على سعد بن عبادة، فقال النبي (صلَّى الله عليه وسلم): ألم تسمع ما قال أبو حُباب -يعني ابن أبيّ-؟ قال سعد: وما قال؟ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: قال كذا وكذا... فقال سعد: اعف عنه يا رسول الله، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي أنزل عليك، ولقد اجتمع أهل هذه البحيرة -يعني المدينة - على أن يتوِّجوه، ويعصبوه بالعصابة. فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك، شرِقَ بذلك، فذلك الذي فعل به ما رأيت..
إن ابن أبَيّ غصَّ بالإسلام لأنه رآه خطراً على زعامته، وكذلك فعل أبو جهل من قبل، ولئن كان هؤلاء قد ازوروا عن الحق بعد ما تبينوه، إن هناك ألوفاً غيرهم لا يدركون قيلا ولا يهتدون سبيلا، كرهوا الإسلام وحاربوه.
ووسط هذه الجهالات البسيطة أو المركبة، والعداوات المقصودة أو المضللة، وسط نماذج لا حصر لها من الضلال والغفلة، أخذ الإسلام رويداً رويداً ينشر أشعته، فأخرج أمة من الظلام إلى النور؛ بل جعلها مصباحاً وهاجاً يضيء ويهدي، والدروس التي أحدثت هذا التحول الخطير والتي رفعت شعوباً وقبائل من السفوح إلى القمم ليست دواء موقوتاً أو مخصوصاً، بل هي علاج أصيل لطبيعة الإنسان إذا التاثت، وستظل ما بقي الإنسان وبقيت الحياة تكرم الإنسان وتجدد الحياة.