إن محمداً (صلَّى الله عليه وسلم) بشر مثلنا، لكن الوجود لا يعرف تفاوتاً بين أفراد جنس واحد كما يعرف ذلك في جنس الإنسان. إن بعضهم أرقى من الأفلاك الزاهرة! وبعضهم الآخر لا يساوي بعرة...وإن كان الكلُّ بشراً!!
وذاك التفاوت واقع بين من لم يؤيدوا بوحي. فكيف إذا اصطفيَ إنسان ما. وزيدت أطوار كماله المعتاد طوراً آخر، تومض فيه أشعة التسديد والتوفيق والإرشاد والإمداد؟؟
إنّ الوحي روحٌ يفدُ على المختارين بحياة جديدة، وهمة جديدة، ورسالة جديدة.
{يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِي}.
إن الجنين بعد نفخ الروح فيه ينشئه الله خلقاً آخر، يغاير الأطوار الستة الأولى التي مرَّ بها، سلالة الطين، فالنطفة، فاخوياة، فالمضغة، فالعظام، فالجسم المكسوّ باللحم..!!
والأنبياء بعد اتصال الوحي بهم وسريان روحه الجديدة في أرواحهم يتحولون بشراً آخرين، لا يدانيهم غيرهم أبداً في مجادة وإشراق.
وهذا التغيير الملحوظ سر تذكير الله لمحمد عليه الصلاة والسلام بالقدرة التي خلقت الإنسان من علق، إن القدرة التي خلقت هذا الإنسان العجيب من علقة طفيلية، هي التي ستنساق بنعمة الله إلى جعل محمد بشراً رسولاً، يقرأ بعدما كان أميَّاً.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ. صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.
عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنث فيه -وهو التعبد- الليالي ذوات العدد قبل أن يرجع إلى أهله يتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فجأه الحق وهو في غار حراء ، فجاءه الملك فقال: {اقْرَأْ}، قال ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ}، قلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني، فقال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ...} الخ.
فرجع بها رسول الله ترجف بوادره! حتى دخل على خديجة بنت خويلد، فقال: "زملوني زملوني" فزملوه حتى ذهب عنه الروع ثم قال لخديجة: أيْ خديجة، مالي؟ وأخبرها الخبر، ثم قال: لقد خشيتُ على نفسي...
قالت له خديجة: كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم وتصدق الحديث، وتحمل الكلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق.
فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل -وهو ابن عم خديجة- وكان امرءاً تنصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العبراني، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخاً كبيراً قد عمي، فقالت له خديجة: أي ابن عم: اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) خبر ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس الذي نزل الله على موسى، يا ليتني فيها جذعاً، ليتني أكون حيّاً إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم): أَوَ مخرجيَّ هم؟ قال: نعم! لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عوديَ. وإن يدركني يومك حيّاً أنصرك نصراً مؤزراً، ثم لم يلبث ورقة أن توفي وفتر الوحي.
لكأن الأربعين عاماً السابقة يوم واحد، وبدأ الوحي صبيحة يوم جديد!! إن العقل الجوَّاب الباحث المستفسر أخذ يشيم أنوار الحق.
والصدر المحرج المثقل بالتشاؤم والارتباك أخذ يحسُّ برد اليقين وفسحة الأمل، والنقلة الطارئة بعيدة المدى...إنها النبوة.
ألا ما أجل هذا الفضل المقبل، وما أعظم ما يواجه محمداً فيه من شئون وشجون..!!
لذلك سرعان ما تراجعت إليه نفسه، وكان موقف زوجه خديجة منه من أشرف المواقف التي تحمد لامرأة في الأولين والآخرين، طمأنته حين قلق، وأراحته حين جهد، وذكرته بما فيه من فضائل مؤكدة له: إن الأبرار أمثاله لا يخذلون أبداً، وأن الله إذ طبع رجلاً على المكارم الجزلة والمناقب السمحة فلكيما يجعله أهل إعزازه وإحسانه، وبهذا الرأي الراجح والقلب الصالح استحقت خديجة أن يحيِّيها رب العالمين، فيرسل إليها بالسلام مع الروح الأمين...