ولا نجد في السنن الصحاح أنباء تصف هذه الرحلة. إن الأسفار من أخصب أبواب المعرفة، وأعمقها أثراً. ومثل محمد عليه الصلاة والسلام في صفاء ذهنه ونقاء قلبه، لا يعزب عنه وجه العبرة فيما يرى، في حله أو ترحاله، على ان من المقطوع به أنه لم يخرج لدراسة دين أو فلسفة، ولم يلق من يتحدث معه في ذلك، وقد روت كتب الأخبار بعض خوارق، ذكرت أنها وقعت له، من ذلك التقاؤه بالراهب "بحيرا" الذي تفرس فيه ورأى معالم النبوة في وجهه وبين كتفيه، فلما سأل أبا طالب: ما هذا الغلام منك؟ قال: ابني، قال: ما ينبغي أن يكون أبوه حياً! قال: فإنه ابن أخي مات أبوه وأمه حبلى به. قال صدقت، ارجع به إلى بلدك واحذر عليه يهود.
وقد تكون هذه القصة صحيحة. فإن البشارة بنبي بعد عيسى عليه السلام موجودة في الكتاب المقدس عند النصارى. وهم -منذ تكذيبهم برسالة محمد عليه الصلاة والسلام- يرقبون هذا النبي المنتظر، ولن يجيء أبداً... لأنه جاء فعلاً..!
وسواء صحت قصة "بحيرا" هذه أم بطلت فمن المقطوع به أنها لم تخلف بعدها أثراً، فلا محمد -عليه الصلاة والسلام- تشوَّف للنبوة أو استعد لها -لكلام الراهب- ولا أصحاب القافلة تذاكروا هذا الحديث أو أشاعوه. لقد طويت كأن لم تحدث مما يرجح استبعادها.
وقيل أيضاً؛ إن كوكبة من فرسان الروم أقبلت على "بحيرا" كأنها تبحث عن شيء. فلما سألها: ما جاء بكم؟ قالوا: جئنا لأن نبياً يخرج هذا الشهر. فلم يبق طريق إلا بعث إليها ناس -للقبض عليه (!) فجادلهم "بحيرا" حتى أقنعهم بعبث ما يطلبون.
والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لما يذكره الإنجيليون من أن ناساً طلبوا المسيح عقب ولادته لقتله، وهي عند المسيحيين مضاهاة لما عند الوثنيين من أن بوذا لما وضعته أمه العذراء (!) طلبه الأعداء ليقتلوه..
إن علماء السنة يهتمون بالأخبار الواردة -من ناحيتي المتن والسند- فإذا لم تفد علماً ثابتاً، أو ظناً راجحاً لم يكترثوا بها. وقد انضمت أساطير كثيرة إلى سير المرسلين. وعندما تعرض على القواعد المقررة في فن التحديث يظهر عوارها ويساغ اطّراحها.