أشد ما يواجه المسلم من الأخطار : ما يهدد وجوده المعنوي , أي ما يهدد عقيدته , ولهذا كانت الردة عن الدين - الكفر بعد الإسلام - أشد الأخطار على المجتمع المسلم . وكان أعظم ما يكيد له أعداؤه أن يفتنوا أبناءه عن دينهم بالقوة والسلاح أو بالمكر والحيلة . كما قال تعالى : ( ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا.
وفى عصرنا تمرض المجتمع المسلم لغزوات عنيفة , وهجمات شرسة , تهدف إلى اقتلاعه من جذوره , تمثلت في الغزو التنصيرى , الذي بدا مع الاستعمار الغربي , والذي لا يزال يمارس نشاطه في العالم الإسلامي , وفى الجاليات والأقليات الإسلامية , ومن أهدافه : تنصير المسلمين في العالم , كما وضح ذلك في مؤتمر « كورادو »› الذي عقد هناك سنة 1978 . وقدمت له أربعون دراسة حول الإسلام والمسلمين , وكيفية نشر النصرانية بينهم . ورصد لذلك ألف مليون دولار , وأسس لذلك معهد ( زويمر) لخريج المتخصصين في تنصير المسلمين .
كما تمثلت في الغزو الشيوعي الذي اجتاح بلاداً إسلامية كاملة في آسيا , وفى أوروبا , وعمل بكل جهد لإماتة الإسلام , وإخراجه من الحياة نهائياً , وتنشئة أجيال لا تعرف من الإسلام كثيراً ولا قليلاً. .
وثالثة الأثافي : الغزو العلمانى اللادينى , الذي لا يبرح يقوم بمهمته إلى اليوم في قلب ديار الإسلام , يستعلن حينا , ويستخفى أحيانا , يطارد الإسلام الحق , ويحتفى بالإسلام الخرافي , ولعل هذا الغزو هو أخبث تلك الأنواع وأشدها خطرا . وواجب المجتمع المسلم - لكي يحافظ على بقائه - أن يقاوم الردة من أي مصدر جاءت وبأي صورة ظهرت , ولا يدع لها الفرصة , حتى تمتد وتنتشر , كما تنتشر النار في الهشيم .
وهذا ما صنعه أبو بكر والصحابة - رضى الله عنهم - معه , حين قاتلوا أهل الردة , الذين اتبعوا الأنبياء الكذبة , مسيلمة وسجاح والأسدى والعنسى وكادوا يقضون على الإسلام في مهده .
ومن الخطر كل الخطر : أن يبتلى المجتمع المسلم بالمرتدين المارقين , وتشيع بين جنباته الردة , ولا يجد من يواجهها ويقاومها . وهو ما عبر عنه أحد العلماء عن الردة التي ذاعت في هذا العصر بقوله : ( ردة ولا أبا بكر لها ) ولا بد من مقاومة الردة الفردية وحصارها , حتى لا تتفاقم ويتطاير شررها وتغدو ردة جماعية , فمعظم النار من مستصغر الشرر .
ومن ثم أجمع فقهاء الإسلام على عقوبة المرتد - وإن اختلفوا في تحديدها- وجمهورهم على أنها القتل , وهو رأى الذاهب الأربعة , بل الثمانية .
وفيها وردت جملة أحاديث صحيحة عن عدد من الصحابة: عن ابن عباس وأبى موسى ومعاذ وعلي وعثمان وابن مسعود وعائشة وأنس وأبى هريرة ومعاوية بن حيدة. وقد جاءت بصيغ مختلفة , مثل حديث ابن عباس : ( من بدل دينه فاقتلوه ) ( رواه الجماعة إلا مسلماً , ومثله من أبى هريرة مند الطبرانى بإسناد حسن , وعن معاوية بن حيدة بإسناد رجاله ثقات) . وحديث ابن مسعود : ( لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله , وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس , والثيب الزانى , والتارك لدينه , المفارق للجماعة ) ( رواه حرامة ) . وفى بعض صيغه عن عثمان : ( . . . . رجل كفر بعد إسلامه , أو زنى بعد إحصانه , أو قتل نفسا بغير نفس ) ( رواه الترمذى وحسنه والنسائى وابن ماجه , وقد صح هذا المعنى من رواية ابن عباس أيضا وأبى هريرة وأنس ) . قال العلامة ابن رجب : والقتل بكل واحدة من هذه الخصال متفق عليه بين المسلمين.
وقد نفذ علي كرم الله وجهه عقوبة الردة في قوم ادعوا ألوهيته , فحرقهم بالنار , بعد أن استتابهم وزجرهم , فلم يتوبوا ولم يزدجروا , طرحهم في النار وهو يقول:
لما رأيت الأمر أمراً منكراً أججت ناري، ودعوت قنبرا
وقنبر هو خادمه وغلامه.
وقد اعترض عليه ابن عباس بالحديث الآخر: ( لا تعذبوا بعذاب الله) ورأى أن الواجب أن يقتلوا لا أن يحرقوا . فكان خلاف ابن عباس الوسيلة لا في المبدأ .
وكذلك نفذ أبو موسى ومعاذ القتل في يهودي في اليمن أسلم ثم ارتد . وقال معاذ : قضاء الله ورسوله ( متفق عليه ).
وروى عبد الرزاق : أن ابن مسعود أخذ قوماً ارتدوا عن الإسلام من أهل العراق , فكتب فيهم إلى عمر . فكتب إليه : أن اعرض عليهم دين الحق , وشهادة أن لا إله إلا اله , فإن قبلوها فخل عنهم , وإذا لم يقبلوها فاقتلهم .. فقبلها بعضهم فتركه , ولم يقبلها بعضهم فقتله .
وروى عن أبى عمرو الشيبانى أن المستورد العجلي تنصر بعد إسلامه, فبعث به عتبة بن فرقد إلى علي, فاسستابه فلم يتب، فقتله.) .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية : أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل توبة جماعة من المرتدين , وأمر بقتل جماعة آخرين , ضموا إلى الردة أموراً أخرى تتضمن الأذى والضرر للإسلام والمسلمين . مثل أمره بقتل مقيس بن حبابة يوم الفتح , لما ضم إلى ردته قتل المسلم وأخذ المال , ولم يتب قبل القدرة عليه , وأمر بقتل العرنيين لما ضموا إلى ردتهم نحواً من ذلك . وكذلك أمر بقتل ابن خطل لما ضم إلى ردته السب وقتل المسلم . وأمر بقتل ابن أبى سرح , لما ضم إلى ردته الطعن عليه والافتراء . وفرق ابن تيمية بين النوعين : أن الردة المجردة تقبل معها التوبة , والردة التي فيها محاربة الله ورسوله والسعي في الأرض بالفساد لا تقبل فيها التوبة قبل القدرة .
وقد قيل: لم ينقل أن رسول الله كان قتل مرتداً, وما نقله ابن تيمية ينقض هذه الدعوى . ولو صح ذلك فلأن هذه الجريمة لم تظهر في عهده . كما لم يعاقب أحداً عمل عمل قوم لوط . إذ لم تستعلن في عهده (صلى الله عليه وسلم ).
ومع أن الجمهور قالوا بقتل المرتد , فقد ورد عن عمر بن الخطاب ما يخالف ذلك . روى عبد الرزاق والبيهقى وابن حزم : أن أنساً عاد من ( تستر) فقدم على عمر , فسأله : ما فعل الستة الرهط من بكر بن وائل , الذين ارتدوا من الإسلام , ولحقوا بالمشركين، قال: يا أمير المؤمنين , قوم ارتدوا عن الإسلام , ولحقوا بالمشركين , قتلوا بالمعركة . فاسترجع عمر ( أي قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ) قال أنس: وهل كان سبيلهم إلا القتل ؟ قال : نعم , كنت أعرض عليهم الإسلام , فإن أبوا أودعتهم السجن) . وهذا هو قول إبراهيم النخعى, وكذلك قال الثوري : هذا الذي نأخذ به . وفى لفظ له : يؤجل ما رجيت توبته .
والذي أراه : أن العلماء , فرقوا في أمر البدعة بين المغلظة والمخففة , كما فرقوا في المبتدعين بين الداعية وغير الداعية. وكذلك يجب أن نفرق في أمر الردة بين الردة الغليظة والخفيفة , وفى أمر المرتدين بين الدامية وغير الداعية .
فما كان من الردة مغلظاً -كردة سلمان رشدي - وكان المرتد دامية إلى بدعته بلسانه أو بقلمه , فالأولى في التغليظ في العقوبة، والأخذ بقول جمهور الأمة , وظاهر الأحاديث , استئصالاً للشر, و سداً لباب الفتنة .
وإلا فيمكن الأخذ بقول النخعى الثوري وهو ما روى عن الفاروق عمر . إن المرتد الدامية إلى الردة ليس مجرد كافر بالإسلام , بل هو حرب عليه وعلى أمته , فهو مندرج ضمن الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا . والمحاربة - كما قال ابن تيمية - نوعان : محاربة باليد , ومحاربة باللسان , والمحاربة باللسان في باب الدين , قد تكون أنكى من المحاربة باليد , ولذا كان النبي عليه الصلاة والسلام يقتل من كان يحاربه باللسان , مع استبقائه بعض من حاربه باليد . وكذلك الإفساد قد يكون باليد ، وقد يكون باللسان , وما يفسده اللسان من الأديان أضعاف ما تفسده اليد .. فثبت أن محاربة الله ورسوله باللسان أشد , والسعي في الأرض بالفساد باللسان أؤكد. والقلم أحد اللسانين , كما قال الحكماء , بل ربما كان القلم أشد من اللسان وأنكى , ولا سيما في عصرنا ، لإمكان نشر ما يكتب على نطاق واسع .
هذا إلى أن المرتد محكوم عليه بالإعدام الأدبي من حرامة المسلمة , فهو
محروم من ولائها وحبها ومعاونتها , فالله تعالى يقول : ( ومن يتولهم منكم فإنه منهم )، وهذا أشد من القتل الحسي عند ذوى العقول والضمائر من الناس .
سر التشديد في عقوبة الردة
وسر هذا التشديد في مواجهة الردة : أن المجتمع المسلم يقوم - أول ما يقوم - على العقيدة والإيمان , فالعقيدة أساس هويته , ومحور حياته , ومحور وجوده ولهذا لا يسمح لأحد أن ينال من هذا الأساس , أو يمس هذه الهوية . ومن هناكانت ( الردة المعلنة ) كبرى الجرائم في نظر الإسلام ! لأنها خطر على شخصية المجتمع وكيانه المعنوي , وخطر على الضرورية الأولى من الضروريات الخمس ( الدين والنفس والنسل والعقل والمال ) والدين أولها , لأن المؤمن يضحي بنفسه ووطنه وماله من أجل دينه . ولإسلام لا يكره أحداً على الدخول فيه، ولا الخروج من دينه إلى دين ما، لأن الإيمان المعتد هو ما كان عن اختيار واقتناع. وقد قال تعالى في القرآن المكي: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين)، وفي القرآن المدني: (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي).
ولكنه لا يقبل أن يكون الدين ألعوبة، يدخل فيه اليوم ويخرج منه غداً، على طريقة اليهود الذين قالوا: ( آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون).
ولا يعقاب الإسلام بالقتل المرتد الذي لا يجاهر بردته، ولا يدعو إليها غيره، ويدع عقابه إلى الآخرة إذا مات على كفره، كما قال تعالى: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب لنار، هم فيها خالدون). وقد يعاقبه عقوبة تعزيرية مناسبة.
إنما يعاقب المرتد المجاهر، وبخاصة الداعية للردة، حماية لهوية المجتمع، وحفاظاً على أسسه ووحدته، ولا يوجد مجتمع في الدنيا إلا وعنده أساسيات لا يسمح بالنيل منها، مثل : الهوية والانتماء والولاء، فلا يقبل أي عمل لتغيير هوية المجتمع، أو تحويل ولائه لأعدائه، وما شابه ذلك. ومن أجل هذا : اعتبرت الخيانة للوطن، وموالاة أعدائه - بالإلقاء بالمودة إليهم، وإفشاء الأسرار لهم - جريمة كبرى. ولم يقل أحد بجواز إعطاء المواطن حق تغيير ولائه الوطني لمن يشاء، ومتى شاء.
والردة ليست مجرد موقف عقلي، ببل هي أيضاً تغير للولاء، وتبديل للهوية، وتحويل للانتماء. فالمرتد ينقل ولاءه وانتماءه من أمة لأخرى، ومن وطن إلى وطن آخر، أي من دار الإسلام إلى دار أخرى. فهو يخلع نفسه من أمة الإسلام، التي كان عضواً فيجسدها، وينضم بعقله وقلبه وإرادته إلى خصومها. ويعبر عن ذلك الحديث النبوي بقوله: ( التارك لدينه، المفارق للجماعة). كما في حيث ابن مسعود المتفق عليه. وكلمة (المفارق للجماعة) وصف كاشف لا منشئ، فكل مرتد عن دينه مفارق للجماعة.
ومهما يكن من جرمه، فنحن لا نشق عن قلبه، ولا نتسور عليه بيته، ولا نحاسبه إلا على ما يعلنه جهرة : بلسانه أو قلمه أو فعله، مما يكون كفراً بواحاً صريحاً لا مجال فيه لتأويل أو احتمال، فأي شك في ذلك يفسر لمصلحة المتهم بالردة. إن التهاون في عقوبة المرتد المعالن الداعية، يعرض المجتمع كله للخطر، ويفتح عليه باب فتنة لا يعلم عواقبها إلا الله سبحانه، فلا يلبث المرتد أن يغرر بغيره وخصوصاً من الضعفاء والبسطاء من الناس وتتكون جماعة مناوئة للأمة تستبيح لنفسها الاستعانة بأعداء الأمة عليها، وبذلك تقع صراع وتمزق فكري واجتماعي وسياسي، قد يتطور إلى صاع دموي بل حرب أهلية تأكل الأخضر واليابس. وهذا ما حدث بالفعل في أفغانستان: مجموعة محدودة مرقوا من دينهم، واعتنقوا العقيدة الشيوعية بعد أن درسوا في روسيا، وجندوا في صفوف الحزب الشيوعي، وفي غفلة من الزمن وثبوا على الحكم، وطفقوا يغيرون هوية المجتمع كله، بما تحت أيديهم من سلطان وإمكانات. ولم يسلم أبناء الشعب الأفغاني لهم، بل قاوموا ثم قاوموا، و اتسعت المقاومة التي كونت الجهاد الأفغاني الباسل ضد المرتدين الشيوعيين الذين لم يبالوا أن يستنصروا على أهليهم وقومهم بالروس، يدكون وطنهم بالدبابات ويقذفونه بالطائرات، ويدمرونه وكان ضحايا الملايين من القتلى والمعوقين والمصابين واليتامى والأرامل والثكالى، والخراب الذي أصاب البلاد وأهلك الزرع والضرع.
كل هذا لم يكن إلا أثراً للغفلة عن المرتدين، والتهاون في أمرهم والسكوت على جريمتهم في أول الأمر. ولو عوقب هؤلاء المارقون الخونة، قبل أ، يستفحل أمرهم، لوقي الشعب والوطن شرور هذه الحرب الضروس وآثارها المدمرة على البلاد والعباد.