ومن بقايا كلمة إبراهيم التي أجمع العرب في جاهليتهم على احترامها "الكعبة" وهي أشبه بغرفة كبيرة مشيدة من أحجار قوية، يعتمد سقفها من الداخل على أعمدة من الخشب الثمين. وأول من قام في بنائها أبو الأنبياء إبراهيم وابنه إسماعيل، والغرض من بنائها أن تكون معبداً لله، ومسجداً يذكر فيه اسمه وحده فإن إبراهيم لقي العناء الأليم في حرب الأصنام وهدم المعابد التي تنصب فيها، ثم ألهمه الله أن يبني هذا البيت ليكون أساساً للتوحيد وركناً، ومثابة للناس وأمناً، ومن البديهي أنه لا يسع القصاد جميعاً فألحق ما حوله به وصار حرماً مقدساً.
ومعنى ذلك أن الكعبة نفسها حجارة لا تضر ولا تنفع، وأن الحرمة التي اكتسبتها هي من الذكريات والمعاني التي حفت بها. ولذلك أكد رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) أن تأمين الأعراض والأموال والدماء أقدس عند الله من هذه الكعبة، وأعظم حرمة وأكبر حقاً.
ومن الوثنية التي يعاديها الإسلام -إلى آخر الدهر- الظن بأن الكعبة أو شيئاً منها له أثر من نفع أو ضرر.
وأنت خبير بأن الرؤساء والقادة والجنود عندما يحيون أعلام بلادهم ويتفانون دونها، فليس هذا عبادة لقطع معينة من القماش. إنما هو تقديس لمعان معينة ارتبطت بها. ومن الأمور التي يسهل فهمها أن يكون لأول مسجد في الأرض مكانة تاريخية خاصة، وأن يكون قبلة لما يستجد بعده من مساجد.
أما الوجهة في كل صلاة والمقصود في كل خشوع فهو الله وحده.
عن أبي ذر: سألت رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) عن أول مسجد وضع في الأرض. قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً. ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه".
وقد تعرضت الكعبة -باعتبارها أثراً قديماً- للعوادي التي أوهت بنيانها وصدَّعت جدرانها، وقبل البعثة بسنوات قلائل جرف مكة سيل عرم، انحدر إلى البيت الحرام، فأوشكت الكعبة منه على الانهيار، فلم تر قريش بداً من أن تجدد بناء الكعبة حرصاً على مكانتها.
وقد اشترك سادة قريش ورجالاتها الكبار في أعمال التجديد ونقل الأحجار بعدما هدموا الأنقاض الواهية وشرعوا يعيدونها كما كانت.
وبناءٌ رفع إبراهيم وإسماعيل من قواعده قبل قرون سحيقة لا يوكل أمره لصغار الفعلة، فلا غرو إذا أقبل عليه الشيوخ وأهل النهى والصدارة، ومن بينهم محمد (صلَّى الله عليه وسلم) وأعمامه.
عن عمرو بن دينار سمعت جابر بن عبدالله يقول: لما بنيت الكعبة ذهب رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) والعباس ينقلان الحجارة فقال العباس للنبي: اجعل إزارك على رقبتك يقيك الحجارة. ففعل -كان ذلك قبل أن يبعث- فخر إلى الأرض، فطمحت عيناه إلى السماء. فقال: إزاري إزاري، فشد عليه فما رؤي بعد عرياناً....
وتنافست القبائل في هذا المضمار، كل يبغي الصدارة فيه والذهاب بفخره، حتى كاد هذا السباق يتحول إلى حرب ضروس في أرض الحرم . واستفحل الشر بين المشتغلين بالبناء عندما بدأوا يستعدون لوضع الحجر الأسود في مكانه من أركان الكعبة؛ لولا أنّ أبا أمية بن المغيرة المخزومي اقترح على المتطاحنين أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل من باب الصفا، وشاء الله أن يكون ذلك محمداً.. فلما رأوه هتفوا: هذا الأمين، ارتضيناه حَكَماً.
وطلب محمد (صلَّى الله عليه وسلم) ثوباً، فوضع الحجر وسطه، ثم نادى رؤساء القبائل المتنازعين، فأمسكوا جميعاً بأطراف الثوب حتى أوصلوا الحجر إلى الكعبة، فحمله محمد صلوات الله وسلامه عليه ثم وضعه في مكانه العتيد.
وهذا حل حصيف رضي به القوم، ومن قبل كانت رؤيتهم لمحمد (صلَّى الله عليه وسلم) مثار تيمنهم واطمئنانهم. وهذا يدل على سناء المنزلة التي بلغها فيهم.
ومع جهد قريش في بناء الكعبة فقد عجزت عن إبلاغها قواعد إبراهيم. ولكن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) بعد أن استقر له الأمر في الجزيرة لم يجد ضرورة لتجديد زيادة بها، وآثر تركها على ما انتهت إليه. عن عائشة قالت: قال لي النبي (صلَّى الله عليه وسلم): "ألم ترَيْ أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ قلت يا رسول الله، ألا تردها إلى قواعد إبراهيم؟ قال: لولا حِدْثان قومك بالكفر لفعلت! قال ابن عمر، لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم). ما أرى أن رسول الله (صلَّى الله عليه وسلم) ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يتمم على قواعد إبراهيم. قال العلماء: والمراد بقول الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) الآنف، قرب العهد بالجاهلية، وضعف استمكان الإيمان، مما يجعل العرب ينفرون من هدم الكعبة وتغيير هيئتها...
ولو كانت إعادة الكعبة كما بناها إبراهيم فريضة ما تركها رسول الله. ولكن الأمر أخف من أن تثار لأجله مشكلات عويصة.