أبومحمد سهل بن عبداللّه التسترى

هو أبومحمد سهل بن عبداللّه التسترى، ولد فى بلدة تستر فى الأهواز سنة ٢٠٣ هـ، وعاش فى القرن الثالث الهجرى، الذى حفل بالأعلام الكبار فى الفقه والتصوّف والعلوم المختلفة، وبلغت فيه الحضارة الإسلامية ذروتها، وأشهدت العالم كله على إنجازها.

‏ نشأ التسترى فى بيت عُرفت عنه التقوى، لاسيما خاله محمد بن سوار، الذى كان يقيم الليل، يتضرّع إلى الله فى خشوع، فتمكنت صورته من قلب الفتى، وانجذب إليه انجذاباً شديداً، فارتبط به وأحبه واتخذ منه مثالاً وقدوة.

هنا يقول: «كنت ابن ثلاث سنين وكنت أقوم الليل أنظر إلى صلاة خالى محمد بن سوار، الذى كان يقوم الليل، فربما كان يقول: اذهب يا سهل فنم فقد شغلت قلبى».

يروى عن خاله أيضاً أنه قال له ذات يوم: «ألا تذكر الله تعالى الذى خلقك، فقلت كيف أذكره، فقال: قل بقلبك عند تقلبك فى ثيابك ثلاث مرات من غير أن تحرّك به لسانك: الله معى، الله ناظر إلى، الله شاهد على. فقلت ذلك ثلاث ليال، ثمّ أعلمته. فقال لى: قل ذلك فى كل ليلة سبع مرات. فقلت ذلك ثم أعلمته فقال لى: قل ذلك فى كل ليلة إحدى عشرة مرة، فقلت ذلك فوقع فى قلبى حلاوة، فلما كان بعد سنة قال لى خالى: إحفظ ما علمتك، وداوم عليه إلى أن تدخل القبر فإنّه ينفعك فى الدنيا والآخرة، فلم أزل على ذلك سنين فوجدت لها حلاوة فى سرى».

فى سنّ مبكرة أرسله أهله إلى الكُتّاب ليحفظ القرآن الكريم ويتعلّم الفقه، فراق له ذلك، لكنه اشترط الذهاب إليه ساعة واحدة فى النهار، كى لا يغفل عن العبادة، ولا ينصرف ذهنه عن النزعة الصوفية، التى تمكنت منه إلى حدّ ظهرت عليه، ولم تكن خافية على أهل البصيرة ممن ألفوه وعرفوه منذ طفولته الغضة.

تفسير القرآن

‏ فى الكُتّاب حفظ التسترى القرآن الكريم وهو فى السادسة، وتفقّه فى أمور الدين، واستطاع ضمّ العلم إلى المجاهدة، والذكر إلى ممارسة كل ما يوجبه الخير، وتحتّمه الفضيلة.

لم يقتصر التسترى فى حفظه القرآن على الاكتفاء بترديد الآيات، وبما قرأه عنها فى التفاسير المختلفة، لكنه أيقن أن القرآن لا يمكن أن يحيط أحد بأقطاره، أو أن تكون المعانى اللغوية الضيّقة هى كل ما عبّر عنه كتاب الله المنزل، وأنها إن انطوت على تعبير فإنما هو الظاهر، وهذا أمر مقصوراً أو مبتسر إذ إن القرآن الكريم ليس هو ما يظهر للناظر منذ الوهلة الأولى‏، فوراء ظاهره أسرار لا تتعارض مع هذا الظاهر، لكنها توضحه وتجليه وتجعله نافذاً إلى القلوب، جاذباً للنفوس، آسراً للأرواح‏، مفجّراً للملكات والطاقات العقلية المطمورة.

فسّر التسترى القرآن الكريم، وتميّز تفسيره بصغر حجمه، لأنه لا يضمّ تفسيراً كاملاً لجميع الآيات القرآنية، إنما هو تفسير لبعضها، وتعليقات كانت استجابة لأسئلة بعض تلامذته. يمكن فى هذا المقام أن نعطى جانباً من هذا التفسير دالاً على بقيته وطريقته، وهو تفسير الآيات الخمس الأولى من سورة «الفاتحة»:

قال أبو بكر: «سئل سهل عن معنى: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ} فقال:

الباء بَهاء الله عزَّ وجلَّ. والسين سناء الله عزَّ وجلَّ. والميم مجد الله عزّ َوجلَّ.

والله: هو الاسم الأعظم الذى حوى الأسماء كلها، وبين الألف واللام منه حرف مكنّى غيب من غيب إلى غيب، وسرّ من سر إلى سر، وحقيقة من حقيقة إلى حقيقة. لا ينال فهمه إلاَّ الطاهر من الأدناس، الآخذ من الحلال قواماً ضرورة الإيمان.

والرحمن: اسم فيه خاصية من الحرف المكنّى بين الألف واللام. والرحيم: هو العاطف على عباده بالرزق فى الفرع والابتداء فى الأصل رحمة لسابق علمه القديم».

قال أبو بكر: «أى بنسيم روح الله اخترع من ملكه ما شاء رحمة لأنه رحيم. وقال على بن أبى طالب رضى الله عنه: «الرحمن الرحيم» اسمان رقيقان أحدهما أرقُّ من الآخر، فنفى الله تعالى بهما القنوط عن المؤمنين من عباده».

أما «الْحَمْدُ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» فقال عنها سهل: معنى: {الحمد للهِ} [٢] الشكر لله، فالشكر لله هو الطاعة لله، والطاعة لله هى الولاية من الله تعالى كما قال الله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} [المائدة: ٥٥] ولا تتم الولاية من الله تعالى إلا بالتبرّى ممن سواه. ومعنى: {رَبِّ العالمين} [٢] سيد الخلق المربّى لهم والقائم بأمرهم، المصلح المدبّر لهم قبل كونهم، وكون فعلهم المتصرف بهم السابق علمه فيهم، كيف شاء لما شاء، وأراد وحكم وقدر من أمر ونهى، لا رب لهم غيره».

«ومالك يَوْمِ الدين} [٤] أى يوم الحساب. {وإِيَّاكَ نَعْبُدُ} [٥] أى نخضع ونذلّ ونعترف بربوبيتك ونوحّدك ونخدمك، ومنه اشتقّ اسم العبد. {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [٥] أى على ما كلفتنا بما هو لك، وإليك المشيئة والإرادة فيه، والعلم والإخلاص لك، ولن نقدر على ذلك إلاَّ بالمعونة والتسديد لنا منك، إذ لا حول لنا ولا قوة إلاَّ من عندك. فقيل له: أليس قد هدانا الله إلى الصراط المستقيم؟ قال: بلى، ولكن طلب الزيادة منه كما قال: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: ٣٥] فكان معنى قوله: «اهدنا» أمددنا منك بالمعونة والتمكين، وقال مرة أخرى «اهدنا» معناه أرشدنا إلى دين الإسلام الذى هو الطريق إليك بمعونة منك، وهى البصيرة، فإننا لا نهتدى إلاَّ بك، كما قال: {عسى ربى أَن يَهْدِيَنِى سَوَاءَ السبيل} [القصص: ٢٢] أى يرشدنى قصد الطريق إليه. قال: وسمعت سهلاً يحكى عن محمد بن سوار عن سفيان عن سالم عن أبى الجعد عن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يقول الله عزَّ وجلَّ: قسمت الصلاة بينى وبين عبدى نصفين، فنصفها لى ونصفها لعبدى، ولعبدى ما سأل. قال: وفإذا قال العبد: {الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} قال تعالى: حمدنى عبدى، فإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال الله تعالى: أثنى عَلىّ عبدى، وإذا قال: {مالك يَوْمِ الدين} يقول الله: فهذه الآيات لى ولعبدى بعدها ما سأل، وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين اهدنا الصراط المستقيم} إلى آخره يقول الله عزَّ وجلَّ: هذا لعبدى ولعبدى ما سأل».

قال سهل: معنى قوله «مجدنى عبدى» أى وصفنى بكثرة الإحسان والإنعام، وقال سهل: وروى عن مجاهد أنه قال: آمين اسم من أسماء الله تعالى، وقال ابن عباس، رضى الله تعالى عنه: ما حسدتكم النصارى على شىء كما حسدتكم على قولكم آمين».

حكى محمد بن سوار عن ابن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبدالله، رضى الله عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: استقيموا ولن تحصوا، واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلاَّ مؤمن، فإذا قال الإمام: ولا الضالين، فقولوا: آمين، فإن الله يرضى على قائلها، ويقبل صلاته، ويجيب دعاءه». وحكى الزهرى عن ابن المسيب عن أبى هريرة، رضى الله تعالى عنه، قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قال الإمام ولا الضالين قولوا: آمين، فإن الملائكة يقولون آمين، فمن وافق تأمينه تأمين الملائكة غُفِرَ له ما تقدّم من ذنبه».

اهتمامه بالسنّة

امتاز التسترى بتعظيمه السنّة النبوية ومراعاته تعاليم الشريعة. ظهر هذا فى تفسيره للقرآن الكريم. جعل هذا الأمر تصوف التسترى غير مغالٍ فيه، أو جانح إلى أى اتجاه يؤخذ عليه من أهل الرواية. ثمة واقعة تدل دلالة قاطعة على ذلك، رواها القاضى أبوسعيد الخليل بن أحمد السجزى: «سمعت أبا محمد أحمد بن محمد بن الليث، قاضى بلدنا، يقول: جاء سهل بن عبدالله التسترى إلى أبى داوود فقيل يا أبا داوود هذا سهل جاءك زائراً فرحّب به، فقال له سهل: أخرج إلىّ لسانك الذى تتحدث به أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقبّله فأخرج إليه لسانه فقبله».

وقد قيل للتسترى: «متى يعلم الرجل أنه على السنة والجماعة»؟ قال: «إذا عرف من نفسه تسع خصال: لا يترك الجماعة. لا يسبّ أصحاب النبى - صلى الله عليه وسلم. لا يخرج على هذه الأمة بالسيف. لا يكذب بالقدر. لا يشكّ فى الإيمان. لا يمارى فى الدين. لا يترك الصلاة على من يموت من أهل القبلة بالذنب. لا يترك المسح على الخفين. لا يترك حرامة خلف كل والٍ جار أو عدل».

وفى هذا الصدد قال أيضا‏:‏ «أصولنا سبعة‏ هى:‏ التمسّك بكتاب الله تعالى، الاقتداء بسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أكل الحلال، كفّ الأذى، اجتناب الآثام، التوبة، أداء الحقوق».‏

ومن كلام التسترى فى هذا المضمار: «كل فعل يفعله العبد بغير اقتداء طاعة كان أو معصية فهو عيش النفس، وكل فعل فعله بالاقتداء فهو عذاب على النفس».

عناصر ضرورية للتصوّف

كان التسترى فى تصوّفه يعلى من شأن المحبة والصبر والشكر والتوكل والصمت. والمحبة لديه هى أن تحبّ ما يحبه حبيبك، وتكره ما يكرهه، والحب لله لديه يجب أن يلازمه الخوف منه ولا يفارقه أبداً، وللمحبة لديه نارها، كما أن للشهوة والشقاوة والقطيعة ناراً. فنار الشهوة تحرق الطاعات ونار الشقاوة تحرق التوحيد ونار القطيعة تحرق القلوب، أما نار المحبة فتحرق النيران كلها.

وسئل التسترى: «أى شىء يفعل الله بعبده إذا أحبه؟ فأجاب: يلهمه الاستغفار عند التقصير، والشكر له عند النعمة».

أما عن الصبر فيستدلّ على رؤية التسترى له من حوار دار بينه وبين أحد المريدين، الذى سأله:

- ما الصبر؟

- لا عمل أفضل من الصبر، ولا ثواب أكثر من صوابه، ولا زاد إلا التقوى، ولا تقوى إلا بالصبر، ولا معين على الصبر لله إلا الله عزّ وجلّ.

- وهل الصبر من الأعمال؟

- الصبر من العمل بمنزلة الرأس من الجسد، لا يصلح أحدهما إلا بصاحبه.

- وما أجله؟

- أجله انتظار الفرج من الحق.

- فما أصله؟

- مجاهدة النفس على إقامة الطاعات، وأدائها بأحكامها وحدودها ومكابداتها على اجتناب المعاصى، صغيرها وكبيرها.

- وكيف يكون الناس فى الصبر؟

- الناس فى الصبر صنفان، فصنف يصبرون فى الدنيا حتى ينالوا منها ما تشتهى أنفسهم، فهو الصبر المذموم، وصنف يصبرون للآخرة طلباً لثواب الآخرة، وخوفاً من عذابها، وهذا هو الصبر المحمود.

- الصبر للآخرة هو على نوع واحد أم على أنواع؟

- الصبر للآخرة له أربعة مقامات. فثلاثة منها فرض والرابع فضيلة. صبر على طاعة الله عز وجلّ، وصبر عن معصيته، وصبر على المصائب من عنده، أو قال: «صبر على أمر الله عز وجل، وصبر على نهيه، وصبر على أفعال الله، فهذه ثلاثة مقامات منه، وهى فرض، والمقام الرابع فضيلة، وهو الصبر على أفعال المخلوقين».

- وما علامة الصبر؟

- ألا يجزع فيه.

- فبأى شىء يحصل التجمل بالصبر؟

- بالمعرفة بأن الله تعالى معك، وبراحة العافية، فإنما الصبر مثل قدح أعلاه الصبر، وأسفله العسل. إننى أعجب ممن لم يصبر، كيف لم يصبر للحال ورب العزة يقول: «إن الله مع الصابرين».

أما الشكر، فيقول عنه: «أدنى الشكر ألا تعصيه بنعمه، وأول درجاته الطاعة. إن العبد ليس له أن يتكلم إلا بأمر سيده، وأن يبطش إلا بأمره، وأن يمشى إلا بأمره، وأن يأكل وينام ويتفكر إلا بأمره، وذلك أفضل الشكر الذى هو شكر العباد لسيدهم».

ويرى التسترى أن التوكل هو الاسترسال مع الله على ما يريد، وهو طرح البدن فى العبودية، وتعلّق القلب بالربوبية، والتبرى من الحول والقوة.

يعظم التسترى من شأن الفقراء، عملا بالتصوّر الذى يقول إن فقراء الصوفية لا ينفعهم الوجود، ولا تنعيهم الملذات، ولا ينال منهم العوز، ولا تقلقهم المصائب. فها هو يقول: «الفقير لا يسأل ولا يردّ ولا يحبس».

ينادى التسترى، كغيره من المتصوفة الكبار، بفضيلة الصمت، فالكلام إن كان يهدى، فالصمت يقى. وهنا يقول: «لا يصحّ لأحد الصمت حتى يلزم نفسه الخلوة، ولا تصحّ له التوبة، حتى يلزم نفسه الصمت».

نظرية الولاية

الولى عند التسترى هو «من توالت أعماله على الموافقة» وكان يقول: «من أسلم قلبه لله تولى الله جوارحه. وإن الخير كله اجتمع فى أربعة، فصاروا بها أولياء لله: أخماص البطون، الاعتزال عن الخلق، سهر الليل، الصمت». وقد سئل ذات يوم عن الشروط التى يجب توافرها فى رجال الله حتى يصبحوا أبدالا، فقال: «سمى الأبدال أبدالا، لأنهم يبدلون الأحوال، أخرجوا أبدانهم عن الحيل فى سرهم، ثم لا يزالون ينتقلون من حال إلى حال، ومن علم إلى علم، فهم أبداً فى المزيد من العلم فيما بينهم وبين ربهم».

وقد سئل ذات مرة: «أيهما أفضل، الأوتاد أم الأبدال؟ فأجاب: الأوتاد. فسئل: كيف ذلك؟ فرد: لأن الأوتاد قد بلغوا، وثبتت أركانهم. أما الأبدال فيتقلبون من حال إلى حال».

وتقوم الولاية لدى التسترى على المعرفة الحسية والحدسية معاً. وفى هذا الشأن يقول التسترى: «إن الله سبحانه وتعالى ما استولى ولياً من أمة محمد صلى الله عليه وسلّم إلا علّمه القرآن، إما ظاهراً، وإما باطناً». قيل له: «إن الظاهر نعرفه، فماذا عن الباطن»؟ فقال: «فهمه، وإن فهمه هو المراد». وأعلى درجات الولاية لدى التسترى هو: الصديقية، وكان يقول إن الصديقين هم الذين عدوا أنفاسهم بالتسبيح والتقديس، وحفظوا الجوارح والحواس، فصار قولهم وفعلهم صدقاً، وصار ظاهرهم وباطنهم صدقاً، وصار دخولهم فى الأشياء وخروجهم عنها بالصدق. ومرجعهم إلى مقعد صدق، بقدم صدق، عند مليك مقتدر.

يشهد معاصرو التسترى بأنه أحد الأئمة الكبار العظام، وأنه لم يكن ثمة فى وقته نظير له فى المعاملات والورع، وكان صاحب كرامات مشهودة، ومؤلفات معروفة من أشهرها: «رقائق المحبين» و«مواعظ العارفين» و‏«جوابات أهل اليقين‏» و«قصص الأنبياء»، علاوة على تفسيره الشهير للقرآن الكريم، الذى لا يزال يقرأ، ويقتبس منه إلى هذه اللحظة.

ظل التسترى محافظاً على مواقفه وتصوفه وعلاقاته بأتباعه، وصورته الطيبة لدى الخاصة والعامة، حتى وافته المنية فى سنة ٢٨٣ هـ وورد فى بعض المصادر أنه مات قبل ذلك بسنوات عشر أى فى سنة ٢٧٣ هـ، وترك بموته فراغاً ملموساً فى مسيرة التصوف الإسلامى.